تنازع البقاء وتكالب الأعداء

ثلاثاء, 06/20/2017 - 06:16
باباه ولد التراد

في ظلِّ التداعيات القائمة والظروف الراهنة، ظهرت تحذيرات من إمكانيَّة انقراض الأمُّة العربيَّة ، على أساس رؤية سوسيولوجية تقليدية ، وأدوات ثقافية تصم العقل العربي بالتخلف الابدي ، معتمدة على وقائع التحولات الهيكلية والدولية التي تطورت إلى حروب خارجيَّة وبَيْنيَّة وَأهليَّة، واحتلال مباشر لبعض البلدان العربيَّة ، من خلال أخطرهجمة شرسة من الشرق والغرب تعتمد منطلقات فكرية وطائفية خطيرة ، وفرضيات نشاز كما المعاني والخطاب التابع أو المتماهي الذي أفضى إلى استغلال خبيث لأفكار" صموئيل هنتنغتون " المتشائمة حول صراع الحضارات ، وتنفيذ إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط التي بشر بها المستشرق اليهودي " برنارد لويس" في مشروعه "الشرق الأوسط الكبير" الذي يعد أخطر وثيقة أقرها الكونغرس الأمريكي  سنة  1983 ، حيث نجم عنها ما بات يعرف اصطلاحا ، ب " الفوضى الخلاقة " ، بغية تفتيت الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة اثنية ومذهبية ، من أجل أن تتسنى فرصة حقيقية لفدرالية تقودها إسرائيل ، باعتبارها الدولة المركزية الوحيدة التي ستحكم المنطقة ، وتلعب دور " كلب الحراسة " وتسعى لتحقيق حلم : " إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات " ، بعد ما تضعف دول الجوار، وهذا يعني أَنَّ الغربَ سيبقى ضالعاً في الوقوفِ ضِدَّ أَيِّ مشروعٍ يتعلَّقُ بوحْدةِ هذه الأُمةِ وتقدُّمِها العلميِّ .

كذلك  فقد أنتهج الإيرانيون بدورهم سياسة تصدير ثورتهم القومية والمذهبية إلى البلاد العربية ، عن طريق استنهاض الروح الطائفية في العديد من الدول العربية ، على غرارأفكار وتطلعات الدولة الصفوية ، وقد مكنهم من هذا الهدف تحالفهم غير المعلن مع الغرب ضد الأمة العربية ، ويؤكد هذا أن جميع ما فشلت إيران في تحقيقه بالحرب مع العراق لمدة ثماني سنوات ، قد حققته بعد الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 ، وبذلك أصبح العراق محتلا من طرف تحالف خبيث يتقن لعبة التقية ، وتم تغييب العديد من العواصم العربية .

لذلك فلم تشهد أي أمة في التاريخ ما شهدته الامة العربية من تآمر وتجزئة وتمزيق ، بسبب الكراهية والحسد والطمع وذلك لأن هذه الأمة هي مهد الحضارات ومهبط الرسالات ، ومثوى المقدسات ، كما أن الله سبحانه وتعالى قد خصها بأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعاد صياغة الإنسان ووضع الأساس لبنائه في فترة من التاريخ كانت البشرية فيها بأمس الحاجة إلى رسالة من السماء تنقذ المجتمعات من الانهيار، وتصفي القلوب من شوائب الشرك، وتوجه العقول نحو عقيدة الوحدانية ، ومع ذلك منح الله هذه الأمة موقعا استراتيجيا حساسا جعلها تتحكم وتشرف على جميع الطرق بين دول العالم ، فضلا عن ما حوته أراضيها من خيرات وكنوز لذلك أصبحت هذه الأمة حلم الطامعين منذ القدم وحتى اليوم.

وهذا ما جعل البعض يعتبر أن خسائرالأمة العربية وهزائمها ومن ثم ارتباك أبنائها بسبب الخيارات المرة ، يتناسب في كل حين مع انتشار الأعداء وكثرتهم ، بل وتركيزهم الدائم على هذه الأمة بالذات ،التي لا يجوز لها من وجهة نظرهم أن تمتلك السلاح النووي أو أن تنشد الوحدة ، مثل ما سمح للهند وباكستان وألمانيا..

غير أنهم يقولون" انه كلما تفاقمت مواجهة اعداء الشعوب للشعوب كلما أبدعت الشعوب " أي أن  عقل الأمة الفاعل قد يتوصَّلُ إلى إبداع ونهجٍ ينقذها من هذه الغمَّة ، كذلك فإن المعارك التي تخسرها أي أمة قد تتحول إلى تجارب وتمارين أثناء المنازلات الحاسمة.

ومع هذا يرى كثير من المثقفين في بلادنا أن فلسفة التثبيط وسياسة القعود مع الخالفين اللتين ينتهجهما الشعوبيون ، وأعداء الأمة في كل المناسبات ، ينبغي أن يتم التصدى لهما بحزم وقوة ، بعيدا عن روح الاستكانة والخضوع والخنوع . وهذا هو محل الإعتراف بالجميل لأولئك الشرفاء عبر الزمن الذين يرفضون مغادرة الميدان رغم سلطة العقل المجتمعيِّ الراهن باعتبار أن الأفكار تستمد أهميتها، وتاريخيتها، من خلال الوعي النقدي الشمولي للواقع ، حيث ينطلق "النخبوي العضو " من الراهن ومن السياق ويعتمد على التحليل المادي ليستخلص بعدها الرؤى، وينطلق من كل ما هو نسبي وتاريخي ولا يركن لثابت متطور بالنظر إلى أن الثبات فيما يخلد ويبقى والمرونة فيما يخلد ويتطور ، ليمارس دوره من موقعه الفكري المستقل والمسؤول ، وينزع الى الفعل في مستقبل يتشاركه والجماهير بوصفه واحدا منهم ،ولكنه غير حيادي لأنه منحاز الى الأمة كلها ، ويعمل على نشر قيم التقدم والوحدة والحرية  ونبذ التجزئة والفرقة ، بل إن عليه أكثر من ذلك أن يزرع الأمل في النفوس في هذا الظرف بالذات الذي هبطت فيه المعنويات ، وعمت فيه خطيئة التنابز بالألقاب.

وحينها  تتحول البلاد إلى كتلة ناهضة بعد أن تمردت على ثقافة اللاجدوى، الشكلانية عند العقل التقليدي التابع الذي يجرّد التحولات المرحلية من كل معنى تحرري، إنساني وأخلاقي في  حالة من التفرد و التنائى ، لأن من يبالغ في الخصوصيات والذاتيات ، والانخراط في التعاطي مع الإطار القطري الضيق الذي ارتضاه الاستعمار أصلا ، ويضع البلاد في الإطارالمنعزل ، يكرس دون شك آثارا رجعية ، خصوصا أن شعار الوحدة التي تتخطى الذاتيات صار في كثير من الحالات ممارسة تقدمية فعلية ، وهو ما يشير إلى أن إعادة إنتاج النموذج البديل المؤهل لتفكيك الخطاب التقدمي غير المستكين ، الذي يعمل على طمس واقع التبعية ، لا يمكن أن يرتقي بوعي سطحي ، ولايمكن أن تقوده فئة متواطئة ضد جمهورها ، وهي عملية معقدة  ، لكنها غير مستحيلة .

ولكن استنادا إلى سيرة الأمة العربية مع أعدائها ، وتاريخ بعض الأمم الحية التي تستعيد ألقها بعد المحن ،فإننا نجد أن أمتنا تنهض باستمرار بعد كل كبوة خطيرة ، فقد انتصرت هذه الأمة انتصارات باهرة بعد احتلالها من طرف كل من الفرس والروم ، والأحباش والصليبيين والمغول والأتراك ، والفرنسيين والإنجليز ،والإيطاليين .

وفي المقابل فقد خضعت عشرات الأمم للإحتلال هي الأخرى ، لكنها نهضت بعد ذلك ، مثل الولايات المتحدة ، وفرنسا وألمانيا واليابان والصين والهند .. ومع ذلك فنحنُ ندرك أَنَّ حَضارةَ الغربِ الحديثةِ التي يود الجميع اللحاق بركبها قامَتْ على أَشلاءِ مئاتِ الملايينِ من أبنائها، فضلا عن الإبادةِ الجَمَاعيَّة لسُكَّانِ أَمريكا الأَصليِّين، والشعوبِ المستعمَرةِ في أَفريقيا وآسيا.

، ومع أن المواجهة ظلت مستمرة بين الأمة العربية وأعدائها فقد تأكد أنها أمة كريمة ذات تاريخ مشرف قدمت خلاله للإنسانية مناقب جمة ومحامد كثيرة ،كما أن هذه الأمة ظلت تمتلك روح المقاومة وتحتل موقع القلب من الجغرافيا العالمية ولايمكن القضاء عليها ولا تدجينها مهما بلغت شراسة الأعداء ، لذلك تقول إحدى الفسطينيات :

"ولكني لاأعرف السقوط ولا الإنحناء ،لاأعرف التصفيق ولا الهتافات

أنا فلسطينية أنا من قلت للصمود اصمد وللصبر اصبر أنا فلسطينية

أسيرة لاتذل للسجان ".

وفضلا عن ذلك فإن أمتنا يقف وراءها تراث العروبة والإسلام ، خلافا لأمم أخرى يقتدي بها الكثيرمنا ، مع أنها لاتؤمن بالله الواحد الأحد ، و"نحن أمة أعزنا الله بالإسلام ولانبتغي العزة بغيره"، ومحيطنا من الدول الإسلامية متفاعل مع المركزمحبة وإخلاصا بعيدا عن "رؤية الفضل على الغير".